كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم كون بعض معاني الكلمات في بعض الآيات والسور يكون أليق بذلك الموضع وأنسب لأمور مشروحة من قرائن الأحوال كأسباب النزول وسياق الآية والقصّة أو الحكم، أو رعاية الأعمّ والأغلب من المخاطبين وأوائلهم، ونحو ذلك، فهذا لا ينافي ما ذكرنا لما سبق التنبيه عليه في سرّ القرآن، وأنّ له ظهرا وبطنا وحدّا ومطلعا، ولبطنه بطن إلى سبعة أبطن وإلى سبعين.
وإذا تقرّر هذا، فلتعلم أنّ للفظة الدّين في اللسان عدّة معان، منها الجزاء، والعادة، والطاعة، والشأن، ودانه في اللغة: أذلّه واستعبده وساسه وملكه. والديّان: المالك، والدين: الإسلام أيضا، فهذه المعاني كلّها تتضمّنها لفظة الدّين وهي بأسرها مقصودة للحقّ، لكمال كلامه وإطلاقه وحيطته، وتنزّهه عن التقيّد بمفهوم خاصّ، أو معنى معيّن، كما مرّ بيانه.
وأنا أومئ- إن شاء اللّه- إلى ما ييسّر الحقّ ذكره من معاني هذه الكلمات بإشارات وجيزة كما فعلت ذلك فيما مرّ، ثمّ أبيّن معاقد أحكام هذه الآية من حيث الترتيب، وسرّ انتهاء القسم الأوّل من أقسام الفاتحة بانتهاء هذه الآية، ثم أنتقل إلى الآية الأخرى المشتملة على القسم الثاني- إن شاء اللّه تعالى- فلنبدأ أوّلا بشرح الجزاء الذي هو المفهوم الأوّل القريب من هذه الكلمة في هذا الموضع، مع أنّي أدرج فيه نكتا شريفة تنبّه على جمل من أسرار أحوال الآخرة وغيرها، فمن أمعن النظر فيما نذكره بنور الفطرة الإلهيّة، استشرف على أمور جليلة، عظيمة الجدوى، واللّه الهادي.
اعلم، أنّ الحقّ سبحانه ربط العوالم والموجودات- جليلها وحقيرها، كبيرها وصغيرها- بعضها بالبعض، وأوقف ظهور بعضها على البعض، وجعل بعضها مرائي ومظاهر للبعض، فالعالم السفلي بما فيه مرآة للعالم العلوي مظهر لآثاره، وكذلك العالم العلوي أيضا مرآة تتعيّن وتنطبع فيه أرواح أفعال العالم السفلي تارة، وصورها تارة، والمجموع تارة أخرى، وعالم المثال الكلّي من حيث تقيّده في بعض المراتب، ومن حيث عموم حكمه وإطلاقه أيضا مرآة لكلّ فعل وموجود ومرتبة، وانفرد الحقّ سبحانه بإظهار كلّ شيء على حدّ علمه به، لا غير، وجعل ذلك الإظهار تابعا لأحكام النكاحات الخمسة، التابعة للحضرات الخمس، وقد سبق التنبيه على كلّ ذلك، فظهور الموجودات- على اختلاف أنواعها وأشخاصها- متوقّف على سرّ الجمع النكاحي، على اختلاف مراتبه المذكورة، وأحكامها المشار إليها من قبل.
وإذا عرفت هذا، فأقول: الجزاء المراد بيان سرّه، عبارة عن نتيجة ظاهرة بين فعل فاعل، وبين مفعول لأجله بشيء [وفي شيء] والباعث على الفعل هو الحركة الغيبيّة الإراديّة، التابعة لعلم المنبعث على الفعل. ولتلك الحركة بحسب علم المريد حكم يسري في الفعل الصادر منه، حتى ينتهي إلى الغاية التي تعلّق بها العلم، وعلّق بها الإرادة، فكلّ فعل يصدر من فاعل فإنّ مبدأه ما أشرت إليه، ولابد له أيضا من أمر به تتعيّن الغاية وتظهر صورة الفعل، وإليه الإشارة بقولي: مفعول لأجله بشيء وفي شيء، ولابد له أيضا من نتيجة وأثر يكون متعلّقه غاية ذلك الفعل، وكما له.
وهذه الأمور تختلف باختلاف الفاعلين وقواهم وعلومهم ومقاصدهم وحضورهم ومواطنهم ونشآتهم، إن كانوا من أهل النشآت المقيّدة، والفاعل المطلق في الحقيقة لكلّ شيء وبكلّ شيء وفي كلّ شيء هو الحقّ، ولا يتصوّر صدور الفعل من فاعل ويكون خاليا عن أحكام هذه القيود النسبيّة المذكورة إلّا النشآت المقيّدة فإنّ أفعال الحقّ من حيث الأسماء والوجه الخاصّ وآثار الحقائق الكليّه والأرواح، لا تتوقّف على النشآت المقيّدة، ولكن تتوقّف على المظهر ولابد إلّا أنّه ليس من شرط المظهر.
وأقرب من ينضاف إليه ذلك الفعل أن يكون عارفا بما ذكرنا أو حاضرا معه فإنّ من الأفعال ما إذا اعتبر بالنظر إلى أقرب من ينسب إليه سمّي لغوا وعبثا بمعنى أنّ فاعله ظاهرا لم يقصد به مصلحة مّا، ولا كان له فيه غرض، والشأن في الحقيقة ليس كذلك فإنّ فاعل ذلك الفعل في الحقيقة الذي لا فعل لسواه هو الحقّ عزّ وجلّ، ويتعالى أن ينسب إليه العبث فإنّه كما أخبر وفهّم {أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا} {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا} بل له سبحانه في كلّ تسكينة وتحريكة حكم عجيبة، وأسرار غريبة، لا تهتدي أكثر الأفهام إليها، ولا تحيط العقول دون تعريفه بكنهها، ولا تستشرف النفوس عليها.
فلابد لكلّ فعل من ثمرة وبداية وغاية، ولابد أن يصحبه حكم القصد الأوّل والحضور التابعين للعلم المتعلّق بالغاية كما مرّ، لكن للفعل ولمن ينسب إليه مراتب، فربما نعت الفعل في بعض المراتب بنعوت عرضت له من حيث النسبة والإضافة في مرتبة معيّنة أو حالة مخصوصة أو بحسب مراتب وأحوال، فيظنّ من لا يعرف السرّ أنّ الفعل يستند إلى فاعلين أو أنّ ذلك النعت ذاتي للفعل واجب الحكم عليه به على كلّ حال وفي كلّ مرتبة ظهر منها، وليس كذلك بل الأمر كما قلنا.
ثم اعلم، أنّ الأفعال على أقسام: ذاتيّة، وإراديّة، وطبيعيّة، وأمريّة.
والأمريّة على قسمين: قسم يتّحد بالأفعال الإراديّة ولا يغايرها، كفعال الملائكة والأرواح النوريّة، وقسم يخالف الإراديّة من بعض الوجوه كالتسخير المنسوب إلى الشمس والقمر وبعض الملائكة.
والطبيعيّة في التقسيم كالأمريّة، وتتّحد في بعض الصور بالنسبة إلى بعض الموجودات بالإراديّة كاتّحاد الأمرية بالإراديّة.
وثمّ قسم جامع لهذه الأقسام الستّة، وصدور هذه الأقسام الفعليّة من الموجودات على أنواع فإنّ من الموجودات ما يختصّ بقسم واحد من هذه الأقسام المذكورة، ومنها ما يختصّ بقسمين وثلاثة على الانفراد والتركيب، بمعنى أنّ أفعاله تصدر مركّبة من هذه الأقسام. أو يكون في قوّته أن يصدر منه بحسب كلّ قسم فعل أو أفعال شتّى، ومنها ما يجمع سائرها بالتفسير المذكور. ومظاهر هذه الأقسام الأرواح النوريّة والناريّة والصور العلويّة والعناصر وما تولّد عنها، وخصوصا الإنسان وما تولّد عنه في كلّ نشأة وحال وموطن ومقام.
وقد بقي من هذا الأصل أمر واحد وهو إسناد كلّ قسم من أقسام الأفعال إلى من يختصّ به من الموجودات على التعيين، والكلام عليه يستدعي بسطا وكشف أسرار لا يجوز إفشاؤها، ومن عرف من ذوي الاستبصار ما اومأت إليه، تنبّه لبعض ما سكتّ عنه ولما تركت ذكره، ثم نرجع إلى تتميم ما يختصّ بالإنسان من هذا الأصل، فإنّه العين المقصودة والمثال الأتمّ والنسخة الجامعة. فنقول:
الإنسان جامع لسائر أقسام الفعل وأحكامها، وله من حيث مجموع صورته وروحه في الحياة الدنيا أفعال كثيرة، وله من حيث روحانيّته حال الانسلاخ بالمعراج الروحاني أفعال وآثار شتّى، تقتضي أمورا شتّى ونتائج جمّة، مع بقاء العلاقة البدنيّة والتقيّد من بعض الوجوه بحكم هذه الدار، وهذه النشأة العنصريّة، وله أيضا بعد مفارقة النشأة العنصريّة بالكلّيّة في نشأته البرزخيّة والحشريّة والجنانيّة وغيرها أفعال وأحوال مختلفة، ولكن كلّها تابعة للنشأة العنصريّة وناتجة عنها، وبتوسّطها تتعدّى أفعال الإنسان من الدنيا إلى البرزخ، ثم إلى الآخرة، وتتشّخص في الحضرات العلويّة، ويثبت ويدوم حكمها كيف كان الإنسان، وحيث كان من المراتب والعوالم والمواطن، فإنّه لا يعرى عن أحكام المزاج العنصري ولوازمه ونتائجه التي يظهر بها وفيها نفسه إذ لا غنى له عن مظهر. ومظاهر الإنسان لا تعرى عن حكم الطبيعة أبدا، فافهم.
وصل من هذا الأصل:
اعلم، أنّ أهمّ ما يجب ذكره وبيانه من هذه التقاسيم كلّها هو أفعال المكلّفين، المضمون لهم عليها الجزاء وهم الثقلان وللحيوانات في ذلك مشاركة من جهة القصاص لا غير، وليس لها- على ما ورد- جزاء آخر ثابت مستمرّ الحكم. وأمّا الجنّ فنحن وإن كنّا لا نشكّ في أنّهم يجازون على أفعالهم، لكن لا نتحقّق أنّهم يدخلون الجنّة، وأنّ المؤمن منهم يجازى على ما عمل من خير في الآخرة فإنّه لم يرد في ذلك نصّ، ولا يعرف من جهة الذوق في هذه المسألة ما يوجب الجزم، فقد يجنون ثمرة خيرهم في غير الجنّة، حيث شاء اللّه. وأمّا الإنسان فعليه مدار الأمر وهو محلّ تفصيل الحكم.
فنقول: فعله لا يخلو إمّا أن لا يقصد به مصلحة مّا، فهو المسمّى عبثا، وقد سبق التنبيه عليه وعلى أنّه غير مقصود للحقّ في نفس الأمر، وإمّا أن يكون مقصودا ومتعلّقا بأمر هو غايته، وذلك الأمر إمّا أن يكون الحقّ أو ما منه.
فما متعلّقه الحقّ، فإنّ مجازاته سبحانه عليه تكون بحسب عنايته بالعبد الذي هذا شأنه، وبحسب علم العبد بربّه، الذي لا يطلب بما يفعله شيئا سواه، وبحسب اعتقاده فيه، وحضوره معه حين الفعل من حيث العلم والاعتقاد، ولهذا المقام أسرار يحرم كشفها.
وما من الحقّ يتعلّق تفصيله بأربع مقامات: مقام الخوف، ومقام التقوى، ومقام الرجاء، ومقام حسن الظنّ.
وهذه المقامات تابعة لمقامات المحبّة فإنّ الباعث على الفعل هو الحكم الحبّي، ومتعلّقه باعتبار ما من الحقّ.
إمّا طلب ما يوافق الطالب، أو دفع ما لا يوافقه عنه، أو الاحتزاز من وقوع غير الموافق، أو ترجّي جلب الموافق بالفعل، أو به وبحسن الظنّ بمن يرجو من فضله نيل ما يروم حصوله من كون المرجوّ جوادا محسنا ونحو ذلك، أو العصمة ممّا يحذر وقوعه منه من كونه قاهرا شديد العقاب، فيخشى أن يصل إليه منه ألم وضرر.
ثم كلّ ذلك إمّا أن يتقيّد بوقت معيّن وحالة مخصوصة ودار دون دار، كالدنيا والآخرة وما بينهما من المواطن، وإمّا أن لا يتقيّد بشيء ممّا ذكرنا، بل يكون مراد الفاعل أحد أمرين:
إمّا جلب المنافع، أو دفع المضارّ على كلّ حال وفي كلّ وقت ودار بما تأتّى له من الطرق، أو يكون الباعث له على فعل الخير هو نفس معرفته بأنّه حسن، واحترازه من الشرّ هو نفس معرفته بأنّه قبيح مضرّ.
ونتيجة كلّ قسم من أقسام الأفعال تابعة لحكم الأمر الأوّل، الموجب للتوجّه نحو ذلك الفعل والباعث عليه مع مشاركة من حكم الاسم الدهر والشأن الإلهيّين. وحكم الموطن والنشأة والنقص والإتمام وما سوى هذا فقد سبق التنبيه عليه.
وظهور كلّ فعل من حيث صورته في مقام المجازاة والإنتاج تابع لحكم الصفة الغالبة على الفاعل حال التوجّه نحوه. ومنتهى الفعل حيث مرتبة الفاعل من الوجه الذي يرتبط بتلك الصفة الغالبة، وبحسب متعلّق همّته، لكنّ الغلبة المنسوبة إلى الصفات الجزئيّة من حيث أوّليّتها تابعة للغلبة الكلّيّة الأولى، المشتملة على تلك الجزئيّات، كالأمر فيما سبق به القلم من السعادة والشقاء بالنسبة إلى محاسن الأفعال الجزئيّة ومقابحها الظاهرة بين السابقة والخاتمة، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك كلّه غير مرّة، وبيّنت أنّ الحكم في الأشياء هو لأحديّة الجمع ويظهر بالأوّليّات، فتذكّر.
ثم اعلم، أنّ كلّ فعل يصدر من الإنسان فإنّ له في كلّ سماء صورة تتشخّص حين تعيّن ذلك الفعل في هذا العالم وروح تلك الصورة هو علم الفاعل وحضوره بحسب قصده حال الفعل، وبقاؤها هو بإمداد الحقّ- من حيث اسمه الذي له الربوبيّة- على الفاعل حين الفعل، وكلّ فعل فلا يتعدّى مرتبة الصفة الغالبة، الظاهرة الحكم فيه حين تعيّنه من فاعله.
والشرط في تعدّي الأفعال الحسنة وحكمها من الدنيا إلى الآخرة أمران هما الأصلان في باب المجازاة ودوام صور الأفعال من حيث نتائجها، أحدهما: التوحيد، والآخر: الإقرار بيوم الجزاء، وأنّ الربّ الموجد هو المجازي، فإن لم يكن الباعث على الفعل أمرا إلهيّا كليّا، أو معيّنا تابعا للأصلين وناتجا عنهما، فإنّ الصورة المتشخّصة في العالم العلوي، المتكوّنة من فعل الإنسان لا تتعدّى السدرة، ولا يظهر لها حكم إلّا فيما دون السدرة خارج الجنّة، في المقام الذي يستقرّ فيه فاعله آخر الأمر، هذا إن كان فعلا حسنا.
وإن كان سيّئا، فإنّه- لعدم صعوده وخرقه عالم العناصر- يعود، فتظهر نتيجته للفاعل سريعا، وتضمحلّ وتفنى أو تبقى في السدرة لما يعطيه سرّ الجمع الكامن في النشء الإنساني وما تقتضيه دار الدنيا، الجامعة لأحكام المواطن كلّها. فإذا كان يوم الحشر، ميّز اللّه الخبيث من الطيّب، كما أخبر: {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ} الآية. وهذه صفة أفعال الأشقياء الذين لا يصعد لهم عمل حسن على اختلاف مراتبهم. والسرّ في ذلك أمران:
أحدهما: أنّ للكثرة حكم الإمكان كما بيّنّا ولا بقاء لها ولا وجود إلّا بالتجلّي الوجودي الأحدي والحكم الجمعي، فأيّ موجود لم يعقل استناده إلى أحديّة المرتبة الإلهيّة، تلاشت أحكام كثرته وآثارها، ولم تبق لعدم الاستناد إلى المرتبة التي بها يحفظ الحقّ ما يريد حفظه، ولو لا انسحاب حكم ميثاق ألست ونفوذه بالسرّ الأوّل، لتلاشى هو بالكلّيّة.
والأمر الآخر فيما ذكرنا يتضمّن أسرارا غامضة جدّا، يجب كتمها، فأبقيناها في خزائن غيبها، يظهرها الحقّ لمن شاء كيف شاء.